كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل: فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِّ الزِّنَا وأحكامه: لِأَنَّهُ أَصْلٌ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَتَعَدَّى فِيهِ حُكْمُهُ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النِّسَاءِ: 15- 16]، فَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ وَارِدَةٌ فِي إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ: لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الْحَظْرِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي الْحَدِّ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: السِّحَاقُ زِنَا النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ. وَيَكُونُ الْحَدُّ فِيهِ حَبْسَهُمَا حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بِالتَّزْوِيجِ، فَيَسْتَغْنِينَ بِحَلَالِهِ عَنْ حَرَامِ مَا ارْتَكَبْنَهُ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} وَارِدَةٌ فِي إِتْيَانِ الرِّجَالِ الرِّجَالَ: لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَيَكُونُ كَالزِّنَا فِي الْحَظْرِ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ زِنًا، وَمُبَاشَرَةُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ زِنًا.
وَقَوْلُهُ: {فَآذُوهُمَا} هُوَ حَدٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا، وَهَذَا الْأَذَى مُجْمَلٌ تَفْسِيرُهُ مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ مِنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ. وَالْفَاحِشَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ الزِّنَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2]، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَرَدَتَا فِي الزِّنَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأُولَى النِّسَاءَ وَفِي الثَّانِيَةِ الرِّجَالَ: لِتُحْمَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَتَصِيرَ كَالْجَمْعِ فِيهَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ. وَتَكُونُ الْآيَةُ الْأُولَى فِي زِنَا النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي زِنَا الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَهُمَا فِي حُكْمِ الزِّنَا سَوَاءٌ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَتَانِ هَلْ هُوَ حَدٌّ أَوْ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَوْعِدٌ بِالْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ: لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْمَوْعِدِ، فَعَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ فِيمَنْ زَنَا مِنْ عُمُومِ النِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فِيمَنْ زَنَا مِنْ خُصُوصِ نِسَائِهِمْ، فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وَهَذَا خِطَابٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَزْوَاجِ دُونَ الْحُكَّامِ: لِأَنَّ الْأَزْوَاجَ بِحَبْسِ نِسَائِهِمْ فِي الْبُيُوتِ أَحَقُّ مِنَ الْحُكَّامِ، وَلَوْ تُوَجِّهَ إِلَى الْحُكَّامِ لَأَمَرُوا بِحَبْسِهِنَّ فِي الْحُبُوسِ دُونَ الْبُيُوتِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهَذَا الْحَبْسِ انْتِظَارًا لِلْمَوْعِدِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ إِنْ تَأَخَّرَ بَيَانُ الْحَدِّ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا إِنْ وَرَدَ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَدِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ وَاللَّذَانِ تَثْنِيَةُ الَّذِي، وَفِيهِمَا وَجْهَان:
أحدهما: أَنَّهَا الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ «يَأْتِيَانِهَا» يَعْنِي الْفَاحِشَةَ وَهِيَ: الزِّنَا. مِنْكُمْ يَعْنِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَآذَوْهُمَا، وَهَذَا خِطَابٌ تَوَجَّهَ إِلَى الْحُكَّامِ. فَآذُوهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْحَبْسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَالثَّانِي: بِالْقَوْلِ مِنْ تَوْبِيخٍ وَزَجْرٍ. فَإِنْ تَابَا يَعْنِي مِنَ الزِّنَا، قَبْلَ وُرُودِ الْحَدِّ. وَأَصْلَحَا يَعْنِي: بِالْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا بِالنِّكَاحِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فَأَطْلِقُوهَا، إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَذَى هَاهُنَا الْحَبْسُ.
وَالثَّانِي: فَكُفُّوا عَنِ الْإِغْلَاظِ لَهُمَا، إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَذَى هَاهُنَا التَّوْبِيخُ وَالزَّجْرُ. فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآيَتَيْنِ مَوْعِدًا بِالْحَدِّ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا ثَابِتًا فِي الْوَعْدِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ. وَتَحْقِيقُهُ مَا نَزَلَ بَعْدَهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُنَّةٍ. فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ حَدِّ الْبِكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2]. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَوَارِدَةٌ فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَامِرٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَ لَهُ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ، قَالَ: فَنَزَلَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ. وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالنَّفْيُ.
وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 15]، فَكَانَ السَّبِيلُ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، وَزَادَ عَلَى مَا فِي سُورَةِ النُّورِ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَجْمُ الثَّيِّبِ.
وَالثَّانِي: تَغْرِيبُ الْبِكْرِ. فَصْلٌ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَضَمَّنَتَا وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ مَوْعِدًا فِي الْحَدِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى أَمْرٍ تَوَجَّهَ إِلَى مُخَاطَبٍ، وَعَلَى حُكْمٍ تَوَجَّهَ إِلَى فَاعِلٍ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْحَدِّ دُونَ الْوَعْدِ. فَعَلَى هَذَا: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهَا هَلْ هُوَ مُجْمَلٌ تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ، أَوْ مُفَسَّرٌ تَعَقَّبَهُ النَّسْخُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَعَقَّبَهُ الْبَيَانُ: لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ هُوَ حُكْمٌ مُبْهَمٌ، وَالْأَذَى مِنَ الْعُمُومِ الْمُجْمَلِ، وَيَكُونُ الْبَيَانُ مَا نَزَلَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ رَجْمِ الثَّيِّبِ وَتَغْرِيبِ الْبِكْرِ، وَيَكُونُ بَيَانُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِيرًا لِإِجْمَالِهِمَا: لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَلَا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ- وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ- فَقَالَ: نَعَمِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ. فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عِنْدَ هَذَا الرَّجُلِ،- يَعْنِي أَجِيرًا- فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُهُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا،- وَكَانَ أُنَيْسٌ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ-، فَغَدَا وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ إِلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. فَدَلَّ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ تَغْرِيبِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ، قَضَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِجْمَالِهِ، وَيَكُونَ حُكْمُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ: لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ تَفْسِيرٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنَ السُّنَّةِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِهِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَضَمَّنَتَا حَدًّا مَفْهُومًا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ: لِأَنَّ مَا فِي الْأُولَى مِنْ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مَعْلُومٌ، وَمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْأَذَى بِمَا ضَرَّ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَفْهُومٌ يَتَقَرَّرُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِالنَّسْخِ بِمَا وَرَدَ مِنْ جَلْدِ الْبِكْرِ وَرَجْمِ الثَّيِّبِ. فَعَلَى هَذَا: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، هَلْ وَرَدَتَا فِي حَدِّ الْبِكْرِ أَوْ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَطَائِفَةٍ: أَنَّهُمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي حَدِّ الْبِكْرِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ هَذَا فِي سَبَبِ تَكْرَارِهِ فِي الْآيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: إِنَّ الْأُولَى فِي أَبْكَارِ النِّسَاءِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَبْكَارِ الرِّجَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ الْأُولَى فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَالثَّانِيَةَ فِي الْبِكْرِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَدُّ الْبِكْرِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخًا بِمَا وَرَدَ فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 12] وَيَكُونُ حَدُّ الثَّيِّبِ بِالرَّجْمِ فَرْضًا مُبْتَدًَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَتَيْنِ مَعًا وَرَدَتَا فِي حَدِّ الثَّيِّبِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالرَّجْمِ، وَحَدُّ الْبِكْرِ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ وَرَدَتْ فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ حَدٍّ مَنْسُوخٍ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ وَنُسِخَتْ بِالرَّجْمِ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَآذُوهُمَا} وَارِدَةٌ فِي حَدِّ الْبِكْرِ وَنُسِخَتْ بِجَلْدِ مِائَةٍ. فَيَكُونُ كِلَا الْحَدَّيْنِ مِنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَنْقُولَيْنِ عَنْ حَدَّيْنِ مَنْسُوخَيْنِ. أَمَّا الْجَلْدُ فِي نَسْخِهِ الْأَذَى مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ: لِأَنَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فَهُوَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا الرَّجْمُ فِي نَسْخِهِ بِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى، فَنَسْخُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ مُقَرَّرًا: وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةُ تُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 106] وَلَيْسَتِ السُّنَّةُ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ مِثْلَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْقُرْآنُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ نَسْخُ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا، هَلْ كَانَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ حَتَّى حَظَرَهُ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ ذَلِكَ مُجَوَّزًا فِي الْعَقْلِ: لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمَأْمُورِ حُكْمُ الْآمِرِ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْآمِرِ حُكْمُ الْمَأْمُورِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ رَافِعًا لِقَوْلِ الْآمِرِ: لِأَنَّ الْآمِرَ مُطَاعٌ وَالْمَأْمُورَ مُطِيعٌ. فَأَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالتَّجَانُسِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ: لِأَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ رَفْعُ الْأَخَفِّ بِالْأَعْلَى، وَإِنِ امْتَنَعَ رَفْعُ الْأَعْلَى بِالْأَخَفِّ. فَإِذَا ثَبَتَ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ، فَفِي نَسْخِ الرَّجْمِ لِإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَجْهَانِ يَسْلَمُ مَعَهُمَا أَنْ يُنْسَخَ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 16]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ حَدٌّ إِلَى غَايَةٍ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ، فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ لَفْظِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ، كَمَا اقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ الْأَعْيَانِ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لُهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا لِانْقِضَاءِ زَمَانِ إِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا: لِأَنَّهُ قَدَّرَ بِهِ مُدَّةً لَا تَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَلَوِ اقْتَضَتِ التَّأْبِيدَ لَصَارَ نَسْخًا مُخْرِجَ ذَلِكَ عَنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَصَارَ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا كَانَ مَتْلُوًّا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا، إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلَكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُوِلَ قَائِلٌ: لَا يَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: زَادَ ابْنُ الْخِطَابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا آية الرجم: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، فَإِنَّا قَدْ أُقْرِأْنَاهَا وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ذَكَرَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: لَقَدْ أَقْرَأَنَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الرَّجْمِ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ». فَإِنْ قِيلَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ نَاسِخًا. قِيلَ: أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَفِيهِ جَوَابَان:
أحدهما: أَنَّهُ لَمَّا عَضَّدَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةِ وَالرَّجْمُ»، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ فِعْلُهُ فِي رَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآحَادِ إِلَى الِاسْتِفَاضَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَشْهَدِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَا أَنْكَرُوهُ، فَدَلَّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَالْمَنْسُوخُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، كَالَّذِي رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي اللَّيْلِ لِيَقْرَأَ سُورَةً فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ لِيَقْرَأَهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَهَا رُفِعَتِ الْبَارِحَةَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَقَوْلِهِ فِي الْعِدَّةِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [الْبَقَرَةِ: 240]. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: «وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ». وَمِثْلُ قَوْلِهِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَانِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ». وَمَا بَقِيَ حُكْمُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ نَسْخُ رَسْمِهِ: لِأَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ رَفْعَ حُكْمِهِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ رَسْمِهِ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مَنْسُوخًا، وَبَيْنَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُجْمَلًا، أَوْ مَحْدُودًا، وَلَمْ يُنْسَخِ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ.